سورة الحاقة - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحاقة)


        


{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}
الحاقةُ من أسماء يوم القيامة؛ لأن فيها يَتَحقَّقُ الوَعدُ والوَعيد؛ ولهذا عَظَّم تعالى أمرَها فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}؟
ثم ذكر تعالى إهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} وهي الصيحة التي أسكتتهم، والزلزلة التي أسكنتهم. هكذا قال قتادة: الطاغية الصيحة. وهو اختيار ابن جرير.
وقال مجاهد: الطاغية الذنوب.
وكذا قال الربيع بن أنس، وابن زيد: إنها الطغيان، وقرأ ابن زيد: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11].
وقال السُّدِّي: {فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} قال: يعني: عاقر الناقة.
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} أي: باردة. قال قتادة، والربيع، والسدي، والثوري: {عاتية} أي: شديدة الهبوب. قال قتادة: عتت عليهم حتى نَقَّبت عن أفئدتهم.
وقال الضحاك: {صرصر} باردة {عاتية} عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة.
وقال علي وغيره: عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب.
{سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} أي: سلطها عليهم {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} أي: كوامل متتابعات مشائيم.
قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والثوري، وغير واحد {حسوما} متتابعات.
وعن عكرمة والربيع: مشائيم عليهم، كقوله: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] قال الربيع: وكان أولها الجمعة.
وقال غيره الأربعاء. ويقال: إنها التي تسميها الناس الأعجاز؛ وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} وقيل: لأنها تكون في عجز الشتاء، ويقال: أيام العجوز؛ لأن عجوزًا من قوم عاد دخلت سَرَبا فقتلها الريح في اليوم الثامن. حكاه البغوي والله أعلم.
قال ابن عباس: {خاوية} خربة.
وقال غيره: بالية، أي: جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان.
وقد ثبت في الصحيحين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نُصِرْتُ بالصَّبا، وأهلكَت عادٌ بالدَّبور».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن يحيى بن الضِّريس العبدي، حدثنا ابن فُضَيل، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا فيها إلا مثل موضع الخاتم، فَمرّت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم، فجعلتهم بين السماء والأرض. فلما رأى ذلك أهل الحاضرة الريح وما فيها قالوا: هذا عارض ممطرنا. فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة».
وقال الثوري عن ليث، عن مجاهد: الريح لها جناحان وذنب.
{فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}؟ أي: هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أنه ممن ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خَلفَا.
ثم قال تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} قُرئ بكسر القاف، أي: ومن عنده في زمانه من أتباعه من كفار القبط. وقرأ آخرون بفتحها، أي: ومن قبله من الأمم المشبهين له.
وقوله: {والمؤتفكات} وهم المكذبون بالرسل. {بالخاطئة} أي بالفعلة الخاطئة، وهي التكذيب بما أنزل الله.
قال الربيع: {بالخاطئة} أي: بالمعصية وقال مجاهد: بالخطايا.
ولهذا قال: تعالى {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} وهذا جنس، أي: كُلّ كذّبَ رسول الله إليهم. كما قال: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14]. ومن كذب رسول الله فقد كذب بالجميع، كما قال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123]. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 141] وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد؛ ولهذا قال هاهنا: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي: عظيمة شديدة أليمة.
قال مجاهد: {رابية} شديدة.
وقال السدي: مهلكة.
ثم قال الله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} أي: زاد على الحد بإذن الله وارتفع على الوجود.
وقال ابن عباس وغيره: {طَغَى الْمَاءُ} كثر- وذلك بسبب دعوة نوح، عليه السلام، على قومه حين كذبوه وخالفوه، فعبدوا غير الله فاستجاب الله له وعَمّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا مِهْرَان، عن أبي سنان سعيد بن سنان، عن غير واحد، عن علي بن أبي طالب قال: لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان، فطغى الماء على الخزان فخرج، فذلك قول الله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك، إلا يوم عاد، فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت، فذلك قوله: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} عتت على الخزان.
ولهذا قال تعالى ممتنًا على الناس: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} وهي السفينة الجارية على وجه الماء، {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه، أي: وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار، كما قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْه} [الزخرف: 12، 13]، وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 41، 42].
وقال قتادة: أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة. والأول أظهر؛ ولهذا قال: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أي: وتفهم هذه النعمة، وتذكرها أذن واعية.
قال ابن عباس: حافظة سامعة وقال قتادة: {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله، وقال الضحاك: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} سمعتها أذن ووعت. أي: من له سمع صحيح وعقل رجيح. وهذا عام فيمن فهم، ووعى.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعة الدمشقي، حدثنا العباس بن الوليد بن صبح الدمشقي، حدثنا زيد بن يحيى، حدثنا علي بن حوشب، سمعت مكحولا يقول: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت ربي أن يجعلها أذُنَ عَلِيّ». قال مكحول فكان عَلِيّ يقول: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته.
وهكذا رواه ابن جرير، عن علي بن سهل، عن الوليد بن مسلم، عن علي بن حوشب، عن مكحول به. وهو حديث مرسل.
وقد قال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا جعفر بن محمد بن عامر، حدثنا بشر بن آدم، حدثنا عبد الله بن الزبير أبو محمد- يعني والد أبي أحمد الزبيري- حدثني صالح بن الهيثم، سمعت بريدة الأسلمي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «إني أمرت أن أدنيك ولا أقصيك، وأن أعلمك وأن تعي، وحُقّ لك أن تعي». قال: فنزلت هذه الآية {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}
ورواه ابن جرير عن محمد بن خلف، عن بشر بن آدم، به ثم رواه ابن جرير من طريق آخر عن داود الأعمى، عن بُرَيدة، به. ولا يصح أيضا.


{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}
يقول تعالى مخبرا عن أهوال يوم القيامة، وأول ذلك نفخة الفزع، ثم يعقبها نفخة الصعق حين يُصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم بعدها نفخة القيام لرب العالمين والبعث والنشور، وهي هذه النفخة. وقد أكدها هاهنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع، ولا يحتاج إلى تكرار وتأكيد.
وقال الربيع: هي النفخة الأخيرة. والظاهر ما قلناه؛ ولهذا قال هاهنا: {وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} أي: فمدت مَدّ الأديم العُكَاظي، وتَبَدّلت الأرض غير الأرض، {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} أي: قامت القيامة. {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} قال سِماك، عن شيخ من بني أسد، عن علي قال: تنشق السماء من المجرة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جريج: هي كقوله: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19].
وقال ابن عباس: منخرقة، والعرش بحذائها.
{وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} الملك: اسم جنس، أي: الملائكة على أرجاء السماء.
قال ابن عباس: على ما لم يَهِ منها، أي: حافتها.
وكذا قال سعيد بن جبير، والأوزاعي.
وقال الضحاك: أطرافها.
وقال الحسن البصري: أبوابها.
وقال الربيع بن أنس في قوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} يقول: على ما استدق من السماء، ينظرون إلى أهل الأرض.
وقوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أي: يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة. ويحتمل أن يكون المراد بهذا العرش العرش العظيم، أو: العرش الذي يوضع في الأرض يوم القيامة لفصل القضاء، والله أعلم بالصواب. وفي حديث عبد الله بن عَميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، في ذكر حَمَلة العرش أنهم ثمانية أوعال.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبو سعيد يحيى بن سعيد حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو السمح البصري، حدثنا أبو قَبيل حُيَي بن هانئ: أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: حملة العرش ثمانية، ما بين مُوق أحدهم إلى مؤخر عينه مسيرة مائة عام.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: كتب إليّ أحمد بن حفص بن عبد الله النيسابوري: حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذنَ لي أن أحدثكم عن ملك من حَمَلة العرش: بُعْدُ ما بين شحمة أذنه وعنقه بخفق الطير سبعمائة عام».
وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات. وقد رواه أبو داود في كتاب السنة من سننه: حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله، حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش: أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام». هذا لفظ أبي داود.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} قال: ثمانية صفوف من الملائكة. قال: ورُوي عن الشعبي وعكرمة والضحاك. وابن جُرَيْج، مثل ذلك.
وكذا روى السُّدِّي عن أبي مالك، عن ابن عباس: ثمانية صفوف.
وكذا روى العوفي، عنه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: الكَرُوبيّون ثمانية أجزاء، كل جنس منهم بقدر الإنس والجن والشياطين والملائكة.
وقوله: أي تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر؛ ولهذا قال: {لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}
وقد قال ابن أبي الدنيا: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل، أخبرنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن بُرْقان، عن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزَنوا، فإنه أخف عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وَتَزَيَّنُوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدالٌ ومعاذيرُ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله».
ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وَكِيع، به وقد رواه الترمذي عن أبي كُرَيْب عن وكيع عن علي بن علي، عن الحسن، عن أبي هريرة، به.
وقد روى ابنُ جرير عن مجاهد بن موسى، عن يزيد، بن سليم بن حيان، عن مروان الأصغر، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: عرضتان، معاذير وخصومات، والعرضة الثالثة تطير الصحف في الأيدي.
ورواه سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة مرسلا مثله.


{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)}
يخبر تعالى عن سعادة من أوتى كتابه يوم القيامة بيمينه، وفرحه بذلك، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} أي: خذوا اقرؤوا كتابيه؛ لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة؛ لأنه ممن بَدل الله سيئاته حسنات.
قال عبد الرحمن بن زيد: معنى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} أي: ها اقرؤوا كتابيه، وؤم زائدة. كذا قال، والظاهر أنها بمعنى: هاكم.
وقد قال ابن أبى حاتم حدثنا: بشر بن مطر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال: المؤمن يعطى كتابه بيمينه في ستر من الله، فيقرأ سيئاته، فكلما قرأ سيئةً تغير لونه حتى يمر بحسناته فيقرؤها، فيرجع إليه لونه. ثم ينظر فإذا سيئاته قد بدلت حسنات، قال: فعند ذلك يقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}
وحدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن الوليد بن سلمة، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا موسى بن عبيدة أخبرني عبد الله بن عبد الله بن حنظلة- غسيل الملائكة- قال: إن الله يَقِفُ عبده يوم القيامة فيبدي سيئاته في ظهر صحيفته، فيقول له: أنت عملت هذا؟ فيقول: نعم أي رب. فيقول له إني لم أفضحك به، وإني قد غفرت لك. فيقول عند ذلك: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} حين نجا من فَضْحه يوم القيامة.
وقد تقدم في الصحيح حديثُ ابن عمر حين سئل عن النجوى، فقال: سمعت النبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُدْنِي اللهُ العبدَ يوم القيامة، فيُقَرِّره بذنوبه كلها، حتى إذا رأى أنه قد هلك قال الله: إني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يُعطَى كتابَ حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]».
وقوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} أي: قد كنت موقنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة، كما قال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46].
قال الله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} أي: مرضية، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} أي: رفيعة قصورها، حسان حورها، نعيمة دورها، دائم حبورها.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو عُتْبَةَ الحسن بن علي بن مسلم السَّكُوني، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن سعيد بن يوسف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلام الأسود قال: سمعتُ أبا أمامة قال: سأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يتزاور أهل الجنة؟ قال: «نعم، إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى، فيحيونهم ويسلمون عليهم، ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين، تقصر بهم أعمالهم».
وقد ثبت في الصحيح: «إن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض».
وقوله: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قال البراء بن عازب: أي قريبة، يتناولها أحدهم، وهو نائم على سريره.
وكذا قال غير واحد.
قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عطاء بن يسار، عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز: (بسم الله الرحمن الرحيم) هذا كتاب من الله لفلان بن فلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية».
وكذا رواه الضياء في صفة الجنة من طريق سعدان بن سعيد، بن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعطى المؤمن جَوَازا على الصراط: (بسم الله الرحمن الرحيم)، هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان، أدخلوه جنة عالية، قطوفها دانية».
وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ} أي: يقال لهم ذلك؛ تفضلا عليهم، وامتنانا وإنعاما وإحسانا. وإلا فقد ثبت في الصحيح، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اعملوا وَسَدِّدوا وقَاربُوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخلَه عملُه الجنةَ». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدني الله برحمة منه وفضل».

1 | 2